03 May
شرح الرسالة القيروانية 16

قال ابن أبي زيد"فهدى من وفّقه بفضله، وأضلّ من خذله بعدله، ويسّر المؤمنين لليُسرى، وشرح صدورهم للذكرى"

الهداية: يراد بها البيان، وهي المقصودة في كلامه السابق "ونبّهه بآثار صنعته، وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه" وهي هداية عامة 

ويراد بها "التوفيق"، وهو المقصود هنا، فعطف هداية التوفيق على هداية البيان، والله هو الموفق للاعتقاد الصحيح والعمل الصالح[1] 

قال تعالى [فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)] [الأنعام: 125] 

وقال [مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)] [الأعراف: 178] 

وقال [وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)] [الإسراء: 97] 

وقال [مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)[الكهف: 17] 

البخاري (1362، 4948حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير [بن عبد العزيز] عن منصور [بن المعتمر] عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، وما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)[الليل: 5 – 6] الآية. [البخاري 4945، 4946، 4947، 4949، 6217، 6605، 7552 – مسلم 2647] 

البخاري (7551) حدثنا أبو معمر [عبد الله بن عمرو المقعد] حدثنا عبد الوارث [بن سعيد التنوري] قال يزيد [بن أبي يزيد الضبعي] حدثني مطرف بن عبد الله عن عمران [بن الحصين] قال: قلت: يا رسول الله، فيما يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له. [مسلم 9 - (2649) من طريق يزيد] 

مسلم 10 - (2650) حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا عثمان بن عمر حدثنا عزرة بن ثابت عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدئلي قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)] [الشمس: 7 – 8] 

مسلم 8 - (2648) حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير (ح) وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفي ما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا بل في ما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألت: ما قال؟ فقال: اعملوا فكل ميسر؟ فالإنسان بين توفيق الله وعدل الله، والموفق من وفقه الله، أما من وكله الله إلى نفسه فخاب وخسر 

والناس في هذا صنفان: 

الصنف الأول: وهو المحمود، العمل والاجتهاد وسؤال الله التوفيق، والخوف من أن يكلهم الله إلى أنفسهم 

الصنف الآخر: وهو المذموم المحتج بالقدر التارك للعمل، ما دام التوفيق من الله، وما دام الله قد كتب في اللوح المحفوظ السعداء والأشقياء وعليه أعظم ما يسأله المسلم المؤمن الموفق التوفيق والثبات، وأخوف ما يخافه أن يكله الله بذنب إلى نفسه، فيُحرم التوفيق ويأتي الكلام عن هذا في "شرح العقيدة

قال الفاكهاني أبو حفص عمر بن علي (ت: 734)

يسّر المؤمنين لليسرى: أي هيأهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "كل ميسر لما خلق له

واليسرى: قيل: يجوز أن يراد بها الجنة أو الخير أو طريقهما؛ لأن طريق الخير عاقبته يسر، ويجوز أن يراد بالتيسير: تهوين فعل الطاعات، بأن يخلقها فيهم محبوبة لهم حتى يكون عليهم أهو الأمور وأيسرها.

ومعنى شرح: فتح ووسع، ومنه شرح المسائل، إذا بسطها ووسع الكلام عليها. 

وعبّر بالصدور عن القلوب كما يعبر عنها بالأفئدة، وهو من التعبير عن الشيء بمحله أو مجاوره.

والذكرى: مصدر يراد به الموعظة، فنوّر قلوبهم ووسعها حتى قبلوا المواعظ، واهتدوا بها حتى تعلّموا مقتضاها.اهـ[2] 

والتعبير بـ "الصدور" وبـ "شرح" تبع فيه ابن أبي زيد القرآن [فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)[الأنعام: 125] وكذا "التيسير" و"اليسرى"[وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)[الأعلى: 8] [فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)[الليل: 7] 

تنبيه: أضاف الإضلال إلى الله؛ لأن المقام مقام بيان أن الهداية والخذلان بيد الله تعالى، لأن الأدب مع الله ألا يضاف الشرّ إليه وإن كان هو خالقه وخالق كل شيء، ومن ذلك ما حكاه الله عن الجن [وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)[الجن: 10] فلما ذكر الشر لم يسم الفاعل وبنى الفعل لما لم يسم فاعله (الفعل المبني للمجهول) ولما ذكر الخير ذكر الفاعل 

قال محمد بن سلامة (ت: 746) بعد أن ذكر الأدب مع الله في عدم إضافة الشر إليه إلا لبيان الحقيقة: ولهذا لما أراد المصنف أن يخبر عن الحقيقة الواجبة الاعتقاد قال "وأضل من خذله بعدله" فحصّل بكلامه هذا الحقيقة.اهـ[3] 


[1] النكت المفيدة ص: 53 شرح ابن ناجي 1 / 10 تحرير المقالة ص: 58   

[2] التحرير والتحبير 1 / 127 – 128   

[3] النكت المفيدة ص: 55    

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة