قال ابن أبي زيد: "وأبرزه إلى رفقه، وما يسّر له من رزقه"
أي أظهر وبين له ما ينفعه
قال الجوهري أبو نصر إسماعيل بن حماد (ت: 393): وبرّزت الشيء تبريزا، أي أظهرته وبينته.اهـ[1]
وقال: ويقال أيضا "أرفقته" أي نفعته.اهـ[2]
قال تعالى [قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)] [طه: 50]
قال الطبري: يعني: نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بنى آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها وفي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هداهم للمأتى الذي منه النسل والنماء كيف يأتيه، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب وغير ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا فيه... [وهذا على تقدير محذوف – كما يأتي – أي مثل خلقه]
وقال آخرون: معنى قوله [ثُمَّ هَدَى (50)] أنه هداهم إلى الألفة والاجتماع والمناكحة...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعطى كل شيء صورته، وهي خلقه الذي خلقه به، ثم هداه لما يصلحه من الاحتيال للغذاء والمعاش...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعطى كل شيء ما يصلحه، ثم هداه له...
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك؛ لأنه – جل ثناؤه – أخبر أنه أعطى كل شيء خلقه، ولا يعطى المعطى نفسه، بل إنما يعطى ما هو غيره؛ لأن العطية تقتضي المعطى والمعطى والعطية، ولا تكون العطية هي المعطى، وإذا لم تكن هي هو، وكانت غيره، وكانت صورة كل خلق بعض أجزائه، كان معلوما أنه إذا قيل: أعطى الإنسان صورته. أنما يعنى أنه أعطى بعض المعاني التي به مع غيره دعي إنسانا، فكأن قائله قال: أعطى كل خلق نفسه. وليس ذلك إذا وجه إليه الكلام بالمعروف من معاني العطية، وإن كان قد يحتمله الكلام. فإذا كان ذلك كذلك، فالأصوب من معانيه أن يكون موجها إلى أن كل شيء أعطاه ربه مثل خلقه، فزوجه به، ثم هداه لما يشاء. ثم ترك ذكر "مثل"، وقيل [أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)] كما يقال: عبد الله مثل الأسد. ثم يحذف "مثل"، فيقول: عبد الله الأسد.اهـ[3]
قول آخر: هداهم لما قدّره لهم
قال ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر (ت: 774): وقال بعض المفسرين: [أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)] كقوله تعالى [وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)] [الأعلى: 3] أي: قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، أي: كتب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم الخلائق ماشون على ذلك، لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه. يقول: ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر، وجبل الخليقة على ما أراد.اهـ[4]
والأولى عدم الإضمار فيكون المعنى أعطى كل جنس صورته وصفته التي يتميز بها، وقوله "ثم هدى" أي هدى كل جنس إلى ما يوافقه
وقال [ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)] [عبس: 20]
قال الطبري: يقول: ثم يسره للسبيل، يعني: للطريق. واختلف أهل التأويل في السبيل الذي يسره لها:
فقال بعضهم: هو خروجه من بطن أمه... [وهذا يشهد له السياق]
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طريق الحق والباطل بيناه له وأعلمناه، وسهلنا له العمل به... [وهذا على عموم اللفظ]
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب: قول من قال: ثم لطريق الخروج من بطن أمه يسره. وإنما قلنا: ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأنه أشبههما بظاهر الآية، وذلك أن الخبر من الله قبلها وبعدها عن صفة خلقه، وتدبيره جسمه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأولى أن يكون أوسط ذلك نظير ما قبله وبعده.اهـ[5]
الأقرب – والله أعلم – أن السياق مع المعنى الثاني، ذكرت الآية، خلق الإنسان ثم حياته ثم موته، وبعته ونشوره، ففي حياته يسّر الله له ما ينفعه في دنياه وآخرته، فاجتمع عموم اللفظ – الـ: في "السبيل" للاستغراق – مع السياق، وهو اختيار ابن كثير[6] وقال [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)] [الإنسان: 3]
بين له طريق السعادة وطريق الشقاء، فالسعيد من اتبع سبيل السعادة وهو الشاكر، والشقي من اتبع سبيل الشقاوة، وهو الكفور
قال ابن كثير: وقوله [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ] أي: بيناه له ووضحناه وبصرناه به، كقوله [وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)] [فصلت: 17] وكقوله [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)] [البلد: 10] أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر. وهذا قول عكرمة وعطية، وابن زيد، ومجاهد – في المشهور عنه – والجمهور. وروي عن مجاهد وأبي صالح والضحاك، والسدي أنهم قالوا في قوله [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ] يعني خروجه من الرحم.
وهذا قول غريب، والصحيح المشهور الأول.اهـ[7]
وقال [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)] [البلد: 10]
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: وهديناه الطريقين. والنجد: طريق في ارتفاع. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك:
فقال بعضهم: عنى بذلك: نجد الخير، ونجد الشر، كما قال عز وجل [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)] [الإنسان: 3] ...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهديناه الثديين؛ سبيلي اللبن الذي يتغذى به، وينبت عليه لحمه وجسمه...
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا[8]: قول من قال: عنى بذلك طريق الخير والشر؛ وذلك أنه لا قول في ذلك نعلمه غير القولين اللذين ذكرناهما، والثديان، وإن كانا سبيلي اللبن، فإن الله – تعالى ذكره – إذ عدّد على العبد نعمه بقوله [إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ] [الإنسان: 2، 3]. إنما عدد عليه هدايته إياه إلى سبيل الخير من نعمه، فكذلك قوله [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)].اهـ[9]